إِنَّ عِلْمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْرٌ جَلَلٌ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ هُوَ، مَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنْ الْعِلْمِ الظَّاهِرِيِّ الَّذِي تَرَاهُ وَالَّذِي تَنْهَزِمُ أَمَامَهُ وَتَتَضَاءَلُ أَنْ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -لِلْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَلِلتَّفْرِيطِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- فِي أَيْدِي أَعْدَائِنَا؛ فَنَشَرُوا الْخَرَابَ وَالدَّمَارَ وَالضَّيَاعَ وَالضَّلاَلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى رُؤُوسِنَا وَحْدَنَا.
نَعَمْ! لَقَدْ شَطَرُوا نُوَاةَ الذَّرَّةِ، وَبَحَثُوا فِي الْإِلكترُونِ، وَلَكِنَّهُمْ حَطَّمُوهَا عَلَى رُؤُوسِنَا نَحْنُ، وَمَا ازْدَادَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي بَلَغَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمَ الْمَادِّيِّ مَا بَلَغَ -مَا ازْدَادَ- سَعَادَةً، بَلْ وُجِدَتِ الْأَمْرَاضُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي الْأَسْلاَفِ، وَلَمْ يَعْرِفْ لَهَا تَارِيخُ الطِّبِّ مَثِيلاً وَلاَ خَبَرًا وَلاَ سَمِعَ عَنْهَا نَبَأً، انْتَشَرَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَوَصَلَ الْإِنْسَانُ بِقَلَقِهِ وَضَيَاعِهِ وَانْحِلاَلِهِ إِلَى دَرَكَةٍ مِنَ الضَّيَاعِ لاَ يَعْلَمُ حَمْأَتَهَا الْحَقِيقِيَّةَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ وَالْعَافِيَةَ.
إِنَّ هَذَا بَهْرَجٌ؛ ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾[الكهف: 7]، زِينَةٌ وَلَيْسَ هُوَ الْأَصْلَ، كَالْفَرَحِ الَّذِي تُعَلَّقُ الزِّينَاتُ وَالرَّايَاتُ عَلَى دَارِ صَاحِبِهِ، وَيُنْصَبُ السَّامِرُ بِلَيْلٍ، فَإِذَا مَا اسْتَيْقَظَ النَّاسُ وَانْفَضَّ السَّامِرُ عَادَتِ الزِّينَةُ إِلَى مَنْ جَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِ، وَعَادَ الْأَصْلُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ نَصْبِ الزِّينَةِ، الَّذِي تَرَاهُ مَا هُوَ إِلاَّ بَهْرَجٌ وَزِينَةٌ.
وَانْظُرْ فِي أَمْرِيكَا أُمِّ الْأَرْضِ الْيَوْمَ، أَعْلَى نَسْبَةٍ مِنْ نِسَبِ الاغْتِصَابِ عَلَى الْإِطْلاَقِ فِي الْعَالَمِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ يُوْجَدُ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا إِبَاحِيَّةٌ جِنْسِيَّةٌ...
حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ أَعْجَبَتْهَا امْرَأَةٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا فَلاَ حَرَجَ، تَأْخُذُ بِيَدِهَا إِلَى كَنِيسَةٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ، وَيَأْتِي أَهْلُ الْعَرِيسِ -أَيُّ عَرِيسٍ؟!!- وَيَأْتِي أَهْلُ الْعَرُوسِ وَالْعَرُوسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُبَارِكَ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا بِجَمْعِهِمْ هَاَتَيْنِ -هَاتَيْنِ أَمْ هَاذَيْنِ؟! نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
وَمَعَ ذَلِكَ أَعْلَى نِسْبَةِ اغْتِصَابٍ فِي الْعَالَمِ، لِمَاذَا؟!
إِنَّ كُلَّ طُرُقِ الْإِشْبَاعِ مُبَاحَةٌ وَمُجَهَّزَةٌ، وَلاَ رَقِيبَ -فِي زَعْمِهِمْ، وَفِي نَظَرِهِمْ-، وَمَعَ ذَلِكَ يَأْتِي الْعُنْفُ، وَيَأْتِي التَّطَرُّفُ، وَيَأْتِي الْإِرْهَابُ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْتِي هَذَا الاغْتِصَابُ الَّذِي لاَ يَدْعُو إِلَيْهِ مَنْطِقٌ مِنْ عَقْلٍ فِي هَذَا الْمُجْتَمَعِ عَلَى الْإِطْلاَقِ.
لِمَاذَا هَذَا كُلُّهُ؟
لِأَنَّ هَؤُلاَءِ قَدَ بَعُدُوا وَلَوْ عَنْ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ الْيَوْمَ، وَلاَ يَحْمِلُونَ الْأَمَانَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْرِضُوهَا عَلَى الْخَلْقِ جَمِيعًا، فَإِذَا مَا أَبَوْهَا حَمَلُوهُمْ عَلَيْهَا حَمْلاً كَمَا هُوَ مَنْهَجُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
هَذَا الْعِلْمُ الْمَادِيُّ الَّذِي تَرَاهُ الْيَوْمَ مَا هُوَ إِلاَّ بَهْرَجٌ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ فَعِلْمُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ، وَمَا يُعَلِّمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَوْلِيَائِهِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى دِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَفَاضَلُ فِيمَا بَيْنَهُ أَصْنَافًا عَلَى حَسَبِ شَرَفِ الْمَعْلُومِ، وَهَلْ هُنَاكَ مَعْلُومٌ أَشْرَفُ مِنَ اللهِ؟!
لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ فَالْعِلْمُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ، وَالْعِلْمُ بِمُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ يَتْلُوهُ فِي الشَّرَفِ وَفِي الْمَكَانَةِ وَفِي الْمَنْزِلَةِ، ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ دَرَكَاتُ الْعُلُومِ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى حَمْأَةِ السِّحْرِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمَا دَارَ فِي فَلَكِهِ سَوَاءً، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ وَالْعَافِيَةَ.
عِبَادَ اللهِ! مَا بَلَغَ النَّاسُ الْيَوْمَ؟!
إِنَّ أَسْرَعَ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ سُرْعَةً الْيَوْمَ عَلَى مَا قَالَ الْعُلَمَاءُ هُوَ الضَّوءُ، الضَّوءُ أَسْرَعُ شَيْءٍ يَسِيرُ الْيَوْمَ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّمْسِ ثَمَانِي دَقَائِقَ ضَوْئِيَّةً، يَعْنِي عِنْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ يَسِيرُ الشُّعَاعُ -يَسِيرُ الضَّوءُ- ثَمِانِي دَقَائِقَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَالشَّمْسُ الَّتِي تَرَاهَا قُرْصًا مُنِيرًا ضِيَاءً فِي قُبَّةِ الْفَلَكِ هَذِهِ تَبْلُغُ فِي حَجْمِهَا مِلْيُونَ مَرَّةٍ مِنْ حَجْمِ الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَمَعَ ذَلِكَ لِهَذِهِ الْمَسَافَةِ الْمُتَطَاوِلَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا تَرَاهَا كَقُرْصٍ فِي قُبَّةِ السَّمَاءِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا هَذَا الْمَدَى الْمُتَطَاوُلُ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللهُ، وَهِي أَكْبَرُ مِنْ الْأَرْضِ بَجُمْلَتِهَا مِلْيُونَ مَرَّةٍ.
أَتَظُنَّ هَذَا شَيْئًا عَظِيمًا فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟! هَذَا لاَ يَبْلُغُ شَيْئًا فِي عِلْمِ اللهِ، وَفِي خَلْقِ اللهِ، وَفِيمَا قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدَّرَ فِي هَذَا الْوُجُودِ.
إِنَّ عُلَمَاءَ الْفَلَكِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلُوا إِلَى حَقِيقَةٍ عَجِيبَةِ الشَّكْلِ أَصَابُوا فِيهَا نَاحِيَةً وَأَخْطَؤُوا فِي نَوَاحٍ، فَأَمَّا النَّاحِيَةُ الَّتِي أَصَابُوا فِيهَا؛ فَهِيَ: الْبَرْهَنَةُ عَلَى عِظَمِ هَذَا الْكَوْنِ وَاتِّسَاعِهِ.
وَأَمَّا النَّوَاحِي الَّتِي أَخْطَؤُوا فِيهَا فَحَدِّثْ عَنْهَا وَلاَ حَرَجَ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا خَلَقَ اللهُ إِلاَّ اللهُ.
يَقُولُونَ: إِنَّ مَدَى هَذَا الْكَوْنِ يَبْلُغُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِلْيُونَ سَنَةٍ ضَوْئِيَّةٍ!!
أَتَتَصَوَّرُ لَوْ أَنَّ شُعَاعًا مِنَ الْأَشِعَّةِ مِنَ الضَّوءِ أَخَذَ يَسِيرُ مِنَ الْآنِ، فَسَارَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِلْيُونَ سَنَةٍ ضَوْئِيَّةٍ مَا بَلَغَ نِهَايَةَ الْكَوْنِ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ!!
وَهُوَ أَوْسَعُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ بِقِيَاسَاتِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَعْضٍ مِنْ الدَّلاَلَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا حَدٌّ، ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ﴾[البقرة: 255]، فَكَيْفَ إِذَا مَا كَانُوا لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أَنْ يُحِيطُوا بِذَاتِهِ؟!
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، وَلاَ رَبَّ غَيْرُهُ، وَلاَ إِلَهَ سِوَاهُ.
عِبَادَ اللهِ!
إِيَّاكُمْ أَنْ تَنْهَزِمُوا أَمَامَ ظَوَاهِرِ الْوُجُودِ؛ فَاعْتَصِمُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ، وَعُودُوا إِلَى دِينِهِ وَإِلَى سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ عِنْدَكُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَلاَ تَنْهَزِمُوا أَمَامَ الْوَاقِعِ.
وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وَجْهَيِ السُّؤَالِ الَّذِي طُرِحَ آنِفًا؛ وَهُوَ: مَا مَوْقِفُ الْمُسْلِمِ فِي إِزَاءِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُخْتَرَعَاتِ الْمَادِيَّةِ وَالْمُسْتَحْدَثَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الْحَدِيثَةِ؟
هَذَا تَوْصِيفُ مَوْقِفِ الْمُسْلِمِ؛ أَنَّهُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: (مَهْزُومٌ).
وَأَنَّ مَا يَنَبَغِي عَلَيْكَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ بِمَوْقِفِكَ كَمُسْلِمٍ إِزَاءَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ هُوَ أَنْ لاَ تُهْزَمَ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْعِزَّةَ لَكَ، وَأَنَّ الْعُلُوَّ لَكَ، وَأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ مَعَكَ، وَعَلَيْكَ أَنْ تُسَخِّرَ هَذَا الْعِلْمَ الْمَادِيَّ وَلاَ تَفِرَّ مِنْهُ، بَلْ تُقْبِلُ عَلَيْهِ بِقَلْبٍ تَقِيٍّ نَقِيٍّ مُؤْمِنٍ يَرْقُبُ فِيهِ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ مِنْ أَجْلِ تَسْخِيرِهِ لِصَالِحِ النَّاسِ الَّذِينَ خَلَقَهَمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَهِيَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَيُوَحِّدُوهُ، فَإِذَا مَا صَنَعُوا ذَلِكَ؛ فَقَدْ حَقَّقُوا مَا خُلِقُوا مِنْ أَجْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَصْنَعُوا ذَلِكَ؛ فَقَدْ ضَلُّوا سَوَاءَ السَّبِيلِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا وَإِيَّاكُمْ إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الخطبةُ الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ -عِبَادَ اللهِ!-:
فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ صَاحِبُ الْعِلْمِ، وَيُعَلِّمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، غَايَةَ مَا هُنَالِكَ أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَسْبَابِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَصِّلَ مَحْبُوبَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهَ، وَمَرْجُوَّ النَّبِيِّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ.
فَأَمَّا إِذَا مَا فَرَّطَ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُحَاسِبُهُ دُنْيَا وَآخِرَةً؛ لِأَنَّهُ لاَ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ضِمْنًا فِي كِتَابِهِ قَدْ فَضَّلَ الْكَلْبَ الْعَالِمَ عَلَى الْكَلْبِ الْجَاهِلِ.
وَإِذَا كَانَ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ هُمْ زِينَةُ الدُّنْيَا وَبَهْجَتُهَا، وَغُرَّةُ الْوُجُودِ وَدُرَّتُهُ -إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ-؛ فَإِنَّ مِنَ الْعَارِ أَنْ يَجْعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وِلاَيَةً لِرَجُلٍ عَلَى وَلِيدٍ صَغِيرٍ لاَ يَفْقَهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ وَلاَ مِنْ مُسْتَقْبَلِهِ شَيْئًا؛ فَيَفِرُّ بِهِ أَبُوهُ وَوَلِيُّ أَمْرِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي بَحْرِ الشَّرْعِ مُتَعَلِّمًا ثُمَّ عَالِمًا -بِإِذْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-، وَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى خَيَالاَتٍ وَأَوْهَامٍ لاَ تُغْنِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ فِي أَصْلِهَا إِنَّمَا هِيَ فِي اتِّبَاعِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا مَعْهَدُكُمُ الْأَزْهَرِيُّ لاَ يَجِدُ مَنْ يَقُومُ عَلَى شَأْنِهِ بِمَدَدِ مَالٍ جَعَلَكُمْ رَبُّكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ الْأَبْنَاءَ لَيُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ؛ بِسَبَبِ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانِ وَمَمَّنْ حَوْلَهُ؛ لَيُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ؛ فَيُقْذَفُ بِفِلْذَاتِ الْأَكْبَادِ بَعِيدًا عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي يَتَلَقَّوْنَ فِيهِ الْعِلْمَ وَهُمْ صِغَارٌ أَغْرَارٌ، أَتَدْرِي لِمَ ذَلِكَ؟!
لِأَنَّ مَنْ حَوْلَ الْمَكَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُومُوا عَلَى شَأْنِ دَوْرَةِ مِيَاهٍ وَاحِدَةٍ، لاَ يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ بِالتِّلْفَازِ الْمُلَوَّنِ فِي الزَّرَائِبِ وَفِي الْحَظَائِرِ وَفِي حُقُولِهِمْ وَمُنْتَدَيَاتِهِمْ -لاَ يَسْتَطِيعُ هَؤُلاَءِ- أَنْ يَقُومَ قَائِمُهُمْ عَلَى شَأْنِ دَوْرَةِ مِيَاهٍ يَتَأَخَّرُ بِسَبَبِهَا اسْتِلاَمُ مَعْهَدٍ إِعْدَادِيٍّ؛ فَلاَ يُقْذَفُ بِفِلْذَاتِ الْأَكْبَادِ بَعِيدًا تَتَقَاذَفُهُمُ السَّيَّارَاتُ مُعَرَّضِينَ لِلْخَطَرِ فِي هَذَا السِّنِّ الْغَرِيرِ.
وَهُمْ يَحْمِلُونَ كِتَابَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي زَمَانٍ نَدُرَ فِيهِ مَنْ يَحْمِلُهُ، فِي زَمَانٍ نَدُرَ فِيهِ مَنْ يُقْبِلُ عَلَيْهِ تَالِيًا فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَامِلاً، إِنَّهُ لَزَمَنٌ عَجِيبٌ حَقًّا، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ وَالْعَافِيَةَ.
الْعِلْمُ الصَّحِيحُ هُوَ عِلْمُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعِلْمُ بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَمَّا ظَوَاهِرُ الْأَشْيَاءِ فَالنَّاسُ فِيهَا لِبَعْضٍ خَدَمٌ.
أَتَظُنُّ أَنَّ الطَّبِيبَ وَالْمُهَنْدِسَ وَالْمُعَلِّمَ يَعْدُو أَنْ يَكُونَ فِي حَقِيقَتِهِ أَجِيرًا عِنْدَ الدَّوْلَةِ، أَوْ عِنْدَ مَنْ يُؤَجِّرُهُ مِنْ مَرِيضٍ أَوْ مُتَعَلِّمٍ أَوْ صَاحِبِ عَقَارٍ؟!
لاَ يَعْدُو أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا، وَهُوَ فِي النِّهَايَةِ عَقْدُ إِجَارَةٍ بَيْنَ مُؤَجِّرٍ وَمُؤَجَّرٍ، وَبَيْنَهُمَا صِيغَةٌ عَلَى زَمَانٍ يُقْتَطَعُ مِنْ زَمَانِ وَعُمُرِ الطَّبِيبِ لِيَقُومَ فِيهِ بِفَحْصِ هَذَا الْمَرِيضِ، أَوْ مِنْ عُمُرِ الْمُهَنْدِسِ لِيَقُومَ عَلَى إِنْشَاءِ مَكَانٍ، أَوْ مِنْ عُمُرِ الْمُعَلِّمِ لِكَيْ يُعَلِّمَ طَالِبَهُ مَعْلُومَةً مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، كُلُّ هَؤُلاَءِ أُجَرَاءُ.
وَأَمَّا الَّذِي لاَ يَكُونُ أَجِيرًا عِنْدَ أَحَدٍ إِلاَّ اللهَ فَهُوَ عَالِمُ الشَّرْعِ؛ فَلاَ يَتَلَقَّى أَجْرَهُ إِلاَّ مِنْهُ وَحْدَهُ.
أَفَتَفِرُّ بِوَلَدٍ صَغِيرٍ غَرِيرٍ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَامِلاً، وَتَذْهَبُ بِهِ إِلَى خَلْقِ اللهِ أَعْطَوْهُ أَوْ حَرَمُوهُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ وَالْعَافِيَةَ-؟!
اللَّهُمَّ! أَحْسِنْ وَعَدِّلْ تَصَوُّرَاتِنَا بِرَحْمَتِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
عِبَادَ اللهِ!