بقلم المحب لرسول الله صلي الله عليه وسلم//أ/صلاح الاحمدى
ـ من أجمل الكلمات التي قيلت في بيان أهمية الدنيا للرسل ما قاله شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في مدح الرسل عامة ونبينا محمد صلي الله عليه وسلم خاصة حيث يقول : الدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها.. إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها.. ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم .. فإذا دُرست ( أي اندثرت وفنيت ) آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية ضرب الله العالم العلوى والسفلي وأقام القيامة .
ـ ويقول ابن تيميه أيضا.. إتماما ً لكلامه السابق وليست حاجة أهل الأرض إلي الرسول صلي الله عليه وسلم كحاجتهم إلي الشمس والقمر والرياح والمطر.. ولا كحاجة الإنسان إلي حياته .. ولا كحاجة العين إلي ضوئها .. والجسم إلي الطعام والشراب.. بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يخطر علي بال .. فالرسل وسائط بين الله وبين خلقة في أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عبادة. ا.هـ
ـ ونحن اليوم أشد ما نكون إلي هدي الأنبياء عامه.. وهدى نبينا خاتم الرسل محمد صلي الله عليه وسلم خاصة.. بعد أن كثر الشر وزاد الفتق علي الراتق.. وندر الخير.. وكثرت الدعوات الباطلة والفلسفات الهدامة التي لم تزد أمتنا إلا رهقا ً وعنتا ً وهزيمة وضعفا ً وخاصة بعد أن تكالب علينا الأعداء جميعا ورمونا عن قوس واحدة .
ـ ما أشدنا في هذا الليل الحالك إلي نورك أيها الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم .. وما أشد حاجتنا إلي حلمك في ظل هذا الغضب الذي يملأ حياة الناس بعضهم مع بعض .. وما أشدنا إلي رفقك في زمن كثر فيه العنف والقتل وسفك الدماء حتى بين المسلمين بعضهم مع بعض.. وما أشد حاجتنا إلى رحمتك وعفوك في زمن لا نري فيه أحدا ً يرحم ُ أحد .. ولا أحد يعفوا عن أحد .. حتى الابن اليوم لا يرحم أباه.. والبنت لا ترحم أمها.. والزوج لا يرحم زوجته.. وصاحب الجاه والسلطان لا يرحم من دونه ومن تحته ..والحكام لا يرحمون أتباعهم وجنودهم ورعيتهم.. وحتى الفرق الإسلامية لا يرحم بعضها بعض.. حتى الحركات الإسلامية أذا اختلفت وتخاصمت لا يرحم بعضها بعض.
ـ لقد كنت أحب دوما قول الله تعالي في وصف رسوله صلي الله عليه وسلم "بالمؤمنين رءوف رحيم " وكان فهمي في شبابي لهذه الاية قاصرا ً.. إذا كان هذا الفهم ينصب علي أن الرسول صلي الله عليه وسلم قد رحم أصحابه ومن عاش معهم بشخصه وشريعته أيضا ً فعاش هؤلاء الصحابة مستظلين بهذه الظلال الورافة من رحمته.. أما أتباعه والمؤمنون برسالته الذين يأتون من بعده فسينعمون بهذه الرحمة من خلال رسالته فقط.. إذ كنت أسأل نفسي كيف السبيل أمام هؤلاء لإدراك رحمة الرسول بشخصه ..بعد انقطاع شخصه صلي الله عليه وسلم عن الحياة بموته ..
ـ إلا أن هذا القصور في فهمي قد بدأ يتبدد حينما مر بي في المعتقل موقف طريف.. حيث أنه قد مرت علينا ظروف عصيبة منعت عنا الزيارات فيها لمدة عام كامل متواصل وكان ذلك في الثمانينات.. وكدنا نموت جوعا ً ..وكنا لا نأكل إلا طعام السجن السيئ جدا ً.. والذي نجد فيه السوس أكثر عددا ً من الفول.. والدود يتشابه مع الأرز ويسبح فيه .. والحصى يتعانق مع العدس فى وصال دائم لا ينقطع.. والبطاطس تقطع إلي نصفين أو ثلاثة ثم توضع بما فيها من طين وتطبخ ثم توزع على المعتقلين.. وهكذا فى كل الخضروات.. وصدق الشيخ القرضاوي حينما عبر بشعره عن طعام السجن أيام أعتقاله فى الخمسينات فقال :
وغداؤنا عدس تزين بالحصى إن الحصى فرض علي التعيين
وعشاؤنا شيء يحيــرك اسمه وكأنما صنعــــوه من غسلين
وكنا في الأصل لا نأكل من طعام السجن هذا .. ولكننا نأكل من طعام الزيارات ومن الطعام الذي نصنعه بأنفسنا.. فلما جاءت هذه المحنه ومنعت عنا الزيارات وصودرت منا كل السخانات وكذلك الحلل وباقي المتعلقات.. باستثناء بطانيتين .لكل واحد منا.. وكنا نعيش وقتها في غرفة انفرادية . .
وكنا في شوق شديد إلي الفاكهة أو الليمون أو أي طعام جميل ونحن نكابد هذا الشوق ونعاني هذا الألم... إذا بمولد النبي صلي الله عليه وسلم قد حل.. وقد كان من عادة مصلحة السجون المصرية منذ أيام الملكية وحتى الآن أنها توزع الحلوى أو ما شابه ذلك فى ذكرى مولد النبى صلى الله عليه وسلم على جميع المعتقلين والسجناء مسلمين ومسيحيين.. ولكن في هذا العام تم توزيع فاكهة فقط دون الحلوى .. ورغم أن الفاكهة شيء عادي بالنسبة للناس جميعا ً وللمعتقلين أيضا الذين يعيشون ظروفا ً عادية في المعتقل وتكون الزيارات مفتوحة عليهم .. ولكن لما كانت ظروفنا في هذا العام من الثمانينات صعبة جدا ً لمنع الزيارات تماما ً عنا.. فقد كان لهذه الفاكهة مذاقا ً خاصا ً .. وتم في هذا اليوم فعلا توزيع أربع برتقالات كبيرة علي كل معتقل وكان كل منا يعيش في غرفة مستقلة.. واستقبلت هذه البرتقالات بفرحة عارمة وقلت لنفسي لا آكلها مرة واحدة ..بل آكل فى كل يوم واحدة .. وبدأت فى التنفيذ العملي لهذه الخطة ..فأكلت الأولى فأحسست لها طعما ً رائعا ً كأني لم آكل هذه الفاكهة طوال عمري وليس لمدة ستة أشهر.. ثم لم أتمالك نفسي حتى أكلت الثانية.. ثم الثالثة فالرابعة.. بل لم استطع مقاومة نفسي عند تذوق قشر البرتقال فوجدت طعمه رائعا ً فأكلته جميعا ً ..
ـ ثم تفكرت فى أمر هذا الرزق الجميل الذي ساقه الله إلينا فى هذه الظروف الصعبة.. فقلت لنفسي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن يكرمنا فى يوم مولده ..وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمنا حتى بعد وفاته ..فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرحم الناس فى زمانه فحسب ولكنه رحمهم أيضا ً فى كل الأزمان .. وقلت إن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوليائه خاصة وبالناس عامة ليس مقصورا ً على شريعته الغراء التى تركها للناس والتي تعد من أوسع الرحمات لهم .. ولكن رحمة الرسول ورفقه أشمل وأوسع من ذلك بكثير ..
ـ وقلت مخاطبا ً نفسي : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتد إلينا رحمته ورفقه وعطفه وشفقته حتى وهو ليس فى دنيا البشر ..وتفكرت كم من المعتقلين أمثالي قد سعدوا فى مثل هذا اليوم .. وكم ممن كان فى ظروف متشابهة لظروفي وأكرمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما أكرمنا طوال سنوات طويلة ماضية.
ـ ثم مر العام الصعب وانفرجت الأمور .. وامتلأت السجون منتصف التسعينات بالمعتقلين .. وكانت هذه السنوات صعبه جدا ً عليهم.. وكان ينالهم الأذى المادي والأدبي تقريبا ً كل يوم ..حتى تأتى أيام جميله مثل يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم فتأتى لهم زيارات استثنائية ويتوقف الأذى المادي والأدبي عنهم .. فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث لهم رسالة رحمة فى مولده .. وكأنه يربت على أكتافهم.. وكأنه يدعوهم إلى الصبر على طريق الله .. والرضا عن قدر الله ..
ـ ولما حان وقت الفرج عن المعتقلين جميعا ً مع بداية المبادرة كان من أهم مناسبات الإفراج ما يسمى بإفراج مولد النبي صلى الله عليه وسلم .. وكان هذا عرفا ً فى الدولة المصرية منذ أيام الملكية وحتى يومنا هذا وكان هذا الإفراج يسمى عفو المولد .. وفيه يتم ما يسمى بالعفو عن بعض السجناء والمعتقلين بأعداد كبيرة .. وكان هذا يشمل الجميع مسلمين وغير مسلمين .. وهذا العرف أظنه موجودا ً فى بعض البلاد العربية والإسلامية كذلك ..
ـ وكنا فى كل عام نقيم حفلا ًكبيرا ً للإخوة المفرج عنهم يحضره جميع من بالمعتقل.. وكنت ألقى كلمة فى هذه المناسبة تحمل كلها معاني الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان سببا ً فى تفريج كرب أوليائه وأبنائه من أمته ليس فى حياته فقط ولكن حتى بعد مماته .. ورغم مرور قرون طويلة على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن رحمته قد امتدت إلينا وإلى من بعدنا وقبل ذلك إلى من قبلنا ..
ـ وكنت أقول إن سنة العفو عن الناس فى مولد النبي صلى الله عليه وسلم سنة طيبة .. حتى وإن لم تحدث فى عصور الإسلام الأولى ..
ـ فهذه السنة نفرج الكربات وتزيل الهموم وتمسح الأحزان وتجفف الدموع وتحبب الناس فى رسولهم الكريم .. ويا ليت كل الدول تحرص على هذه العادة الطيبة..
ـ وأقول للأخوة فى هذه المناسبة مخاطبا ً الرسول صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم طبت حيا ً وميتا ً ..ونفعت أمتك حيا ً وميتا ً .. وفرجت كربتهم ورحمت غربتهم وأطعمت جائعهم حيا ً وميتا ً .. وكنت سببا ً فى كل خير وبر ومعروف وهداية لأمتك وللناس حيا ً وميتا ً ..
ـ وانفتح قلبي بهذه الذكريات على معاني عميقة وجميلة من فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على الدنيا كلها .
ـ ومما يحضرني فى هذه المناسبة أننا كنا فى أول مبادرة منع العنف نعيش فى قلق شديد خشية ألا تنجح هذه المبادرة .. وظللنا ندعو طويلا ً لهذه المبادرة أن يكون فيها النفع والخير للإسلام والمسلمين وبلاد المسلمين.. وأن يكتب الله لها النجاح والفلاح وأن ييسر لنا فيها كل عسير..وما بين ذلك الخوف والترقب والقلق وخاصة فى السنوات الأولى للمبادرة والتي تعطلت فيها كثيرا ً .. رأى الشيخ علي الشريف رؤيا غريبة جدا ً ًفقد رأى رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يقول له: سأرسل لك رسالة مع طائر تقرأها علي جميع الإخوة.. فقال له الشيخ علي الشريف : نعم .. وإذا به وهو ينتظر الطائر الذي يحمل رسالة الرسول صلي الله عليه وسلم..إذا به يجد بعض ضباط الشرطة.. وإذا بالطائر يلقي الرسالة وإذا بهؤلاء الضباط يأخذون الرسالة قبل الشيخ علي الشريف.. فلما وجد رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الرسالة قد وقعت في أيدي هؤلاء الضباط قال لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم :اقرءوا أنتم هذه الرسالة علي الإخوة .. وكان هناك عدد كبير من الإخوة قد تجمعوا لسماع رسالة رسول الله صلي الله عليه وسلم .. فسمعوها من هؤلاء الضباط ..وقد استغرب الشيخ علي الشريف من هذه الرؤيا .. فقال لمن يسكن معه في غرفته وكان يدعي الشيخ محمد حسين وكان خريجا ً لكلية دار العلوم وعنده علم كثير في الشرع وتأويل الرؤى أيضا ً.. فلما حكاها له قال له: هذه رؤيا واضحة جدا ً .. أما رسالة الرسول صلي الله عليه وسلم فهي المبادرة التى أطلقتموها .. وأنتم لم تستطيعوا أن توصلوا رسالة الرسول صلي الله عليه وسلم بوقف الاقتتال الداخلي بين المسلمين إلا بعد موافقة الشرطة لانتقالكم من سجن إلي سجن لشرح هذه المبادرة ..وتفعيلها وإقناع الأخوة بها بالأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم .. وهذه الرؤية وغيرها من الرؤى الأخرى المشابهة هي التي زادتنا طمأنينة لصحة وسلامة ما ندعو إليه ..
ـ وبالفعل تمت المبادرة علي خير وجه نحبه ونرضاه .. ونسأل الله لها القبول ولنا الأجر عند الله سبحانه وتعالي ..
ـ لقد كان يعجبني كثيرا ً قول السيدة خديجة رضى الله عنها حينما قالت للنبي صلي الله عليه وسلم في أول رسالته والله لا يخزيك الله أبدا ً.. إنك لتحمل الكل.. وتقري الضيف.. وتعطى المعدوم.. وتعين علي نوائب الدهر "
ـ ما أجمل هذه العبارات وما أعذبها .. هذه والله صفات رجل يستحق أن يختاره الله لرسالته ويتنزل عليه وحى السماء.. وأن يكون جديرا ً بحمل أمانة هذا الدين العظيم.. وتبليغ هذه الأمانة العظيمة ...
ـ هذه هي أخلاق الرسول صلي الله عليه وسلم قبل الرسالة.. فما بالكم به بعد الرسالة..
ـ لقد كنت أتصور في بداية حياتي أن هذه الصفات قد أنتهي أثرها بوفاة النبي صلي الله عليه وسلم .. ولكنني بعد التجارب التي مرت بى في حياتي والتي ذكرت طرفا منها أيقنت أن الرسول صلي الله عليه وسلم لا يعين علي نوائب ومحن الدهر فقط في حياته.. ولكنه أيضا يفعل ذلك بعد وفاته .. ولا يعطي المعدوم ويحمل الكل ويقري الضيف في حياته فقط ولكنه يفعل ذلك بعد وفاته أيضا .. فكل مسلم يعطي المعدوم ويقرى ويكرم الضيف ويعين الآخرين علي نوائب وملمات ومصائب الزمان فهو نبع من فيض هدي النبي صلي الله عليه وسلم .. لقد تعلمه من رسول الله صلي الله عليه وسلم .. وتأدب فيه بأدب رسول الله صلي الله عليه وسلم .. وما رحم مسلم إنسانا ولا عفا ولا صفح عنه.. ولا فرج كربة من كرباته..إلا اعتبر ذلك كله قطرة من نهر فياض لخلق الرسول صلي الله عليه وسلم .. والذي أفاض منه علي أمته كلها.. بل علي البشرية كلها ..
ـ لقد استبان لي أن قول الله تعالي " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " أشمل وأعظم مما كنت أتصور .. فصلاة ً وسلاما ً عليك ياسيدي يا رسول الله .. لقد بلغت الرسالة أعظم بلاغ وأديت الأمانة أعظم أداء ونصحت للأمة أعظم نصح ..
· ومع لقاء جديد وأغلى الذكريات مع الحبيب " صلى الله عليه وسلم " ونستودعكم الله الذى لا تضيع ودائعه.